الدفع بالأمية - إثباته وأثره على الالتزام
مما لا شك فيه أن الإثبات وقواعده يحتل مكانة خاصة في القانون المغربي ،وذلك اعتبارا لكون الحق كموضوع للتقاضي قد يصبح أحيانا مجردا من أية قيمة تذكر ،خصوصا إذا لم يقم الدليل على ذلك تبعا للقاعدة القائلة بأن الحق يدور مع الإثبات وجودا وعدما .
ويعتبر بعض الفقه الإثبات بأنه إقامة الدليل أمام القضاء على وجود واقعة مادية في وضع يرتب حقا أو يعدله أو يرتب انقضاؤه سواء كان حقا موضوعيا أم متعلق بالإجراءات.
فيما يعتبره البعض الآخر بأنه: "عملية يجب أن تتم أمام القضاء، بإقامة الدليل على واقعة معينة بهدف تكوين عقيدة القاضي بشأن وجود هذه الواقعة من عدمه ".
![]() |
| اثبات الدفع بالأمية وأثره على الإلتزام |
ولئن كان من بين القواعد الأساسية في توزيع عبء الإثبات بين الخصوم والمتعارف عليها فقها أن البينة على المدعي واليمين على أنكر، فإن التساؤل المطروح هنا يتمحورأساسا حول الجهة التي تتحمل عبء إثبات الدفع بالأمية ، وكذا وسيلة إثباته من جهة والآثار المترتبة على التزام الأمي من جهة أخرى ؟
وبناء على ذلك سيتم تقسيم الموضوع الى شقين الأول متعلق بمسألة إثبات الدفع بالأمية، أما الثاني سنخصصه للأثار المترتبة عن التزام الأمي.
1- إثبات الدفع بالأمية
إذا كانت الأمية كما سبق الذكر تعد مسألة واقع وذلك لتعلقها بحالة إجتماعية تمس فئة معينة من المجتمع من جهة ووصفا كذلك لمن حرم من حضه في التعلم ،فإن الدفع بالأمية من جهة أخرى ما هو إلا إدعاء و طرح لواقعة مادية - الأمية - أمام المحكمة قصد البث فيها.
الدفع بالأمية وقواعد الاثبات
من المعلوم أن المبدأ في الإثبات،أن المدعي هو الذي يتوجب عليه إقامة الدليل على صدق دعواه باعتبار أن الأصل هي براءة ذمة المدعى عليه طبقا لمقتضيات الفصل 399 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص على أن "إثبات الإلتزام على مدعيه".
وإذا كانت معرفة الملزم بعبء الإثبات تكتسب أهمية كبرى من الناحية العملية ، فإنه وفي إطار موضوعنا يختلف الأمر بكثير وذلك بحسب ما إذا كانت واقعة الأمية لدى المتمسك بها تعد أصلا أم إستثناءا.
هكذا فإنه بالرجوع إلى قرارات محكمة النقض وموقعها من مسألة إثبات الأمية ، فقد وجدنا أن هناك إتجاهين إثنين ، أولهما يقر بثبوت الأمية لدى المتمسك بها كأصل وثانيهما يطبق القاعدة المتمثلة في تحميل المدعي بينة ما يدعيه.
أولا- الأمية هي الأصل
إن هذا الإتجاه ينتصر إلى كون الأمية هي الأصل لدى الطرف المتمسك بها ،الشيء الذي يؤدي إلى نتيجة حتمية وهي أن هذا الأخير يكون معفيا من إثبات كونه طرفا أميا في الالتزام.
وبالتالي فإن عبء إثبات ذلك ينتقل وجوبا إلى الطرف المواجه بهدا الدفع ، فهدا الإتجاه قد أسس تصوره على كون أن الأمية هي واقعة ثابتة لدى الإنسان بحكم الأصل بدليل أنها مسألة تولد مع الإنسان وذلك وفقا للتعاريف التي حددت معنى كلمة الأمي.
ثانيا- إلزامية إثبات الدفع بالأمية
لئن كان الاتجاه الأول يعتد بثبوت الأمية لدى المتمسك بها كأصل فإن هذا الاتجاه قد نحا موقفا أخر ينسجم والمبادئ العامة للإثبات التي ينص عليها المشرع المغربي والمتجلية في قاعدة أن البينة على المدعي المنصوص عليها في الفصل 399 من قانون الالتزامات والعقود المشار إليه سابقا، وكذا الفصل 400 من نفس القانون الذي ينص على أنه:
وسائل إثبات الدفع بالأمية
فبما أن موضوعنا متعلق بالدفع بالأمية، فان إثبات هذا الأخير كما سبق الذكر يعني الضرورة وبطريقة غير مباشرة إثباتا لواقعة الأمية باعتبارها تشكل مضمونه ،الشيء الذي يجعل الطرف المتمسك بهذا الدفع له كامل الصلاحية في الإدلاء بأية وسيلة يرى أنها منتجة و محققة لمصلحته بما فيها الأبحاث التي تقوم بها المحكمة قصد الوصول إلى إثبات هذه الأخيرة.
وبالتالي فإننا سأحاول التطرق فقط إلى وسائل الإثبات التي كشف العمل القضائي على استعمالها أمام المحاكم بمناسبة نزاعات أثيرت فيها دفوع تتعلق بالأمية.
أولا- إثبات الدفع بالامية بشهادة الشهود
مما لا شك فيه أن شهادة الشهود تعتبر أهم وسيلة من وسائل الإثبات التي قررها القانون حسب مقتضيات الفصل 404 من قانون الالتزامات والعقود إلى جانب كل من:- إقرارالخصم.
- الحجة الكتابية وغيرها من وسائل الإثبات الأخرى.
هكذا فقط اعتبر بعض الفقه57 أن الشهادة ما هي إلا تقرير لحقيقة أمر توصل الشاهد إلى معرفته بعينه أو بأذنه. عليه فإن الشهادة حسب هذا التعريف تعد حجة مقنعة تخضع في ذلك لسلطة المحكمة التقديرية التي لها بعد تقييمها أن تأخذ بها أو أن تطرحها جانبا ، وذلك في حالة ما إذا تم الإدلاء بدليل أقوى منها.
إن شهادة الشهود حسب هذا الرأي تكون من جهة أخرى حجة غير قاطعة ،لكون أن ما بها يقبل النفي سواء بشهادة أخرى أو بطريق أخر من طرق الإثبات، وإذا كانت شهادة الشهود كوسيلة إثبات يعتد بها لإثبات الالتزام كما سبق الذكر، فإنها تصلح كذلك لإثبات الأمية وكذا تبرير الدفع بها من قبل الطرف المتمسك به.
ثانيا- إثبات الدفع بالأمية بالقرانن
تعد القرائن كذلك أحد أهم وسائل إثبات الالتزام المنصوص عليها في الفصل 404 من ق. ل.ع ويقصد بالقرائن حسب مقتضيات الفصل 449 من نفس القانون:
هي كل ما يستنبطه المشرع أو القاضي من أمر معلوم للدلالة على أمر مجهول وهي نوعان:
- نوع يستنبطه قاضي الموضوع من وقانع ادعوى المعروضة عليه ويعتبر استنتاجات فردية في حالات خاصة.
- نوع يستنبطه المشرع نفسه مما يغلب وقوعه عملا في طائفة معينة من الحالات، فيبني عليه قاعدة عامة في صيغة مجردة.
وقد اعتبر بعض الفقه بأن القرائن هي عملية استنباط عقلي من أمارات مستمدة من ظروف الحال أو الواقع ، بقصد تكوين عقيدة القاضي ، كما أنها تعتبر وسيلة من وسائل الإثبات غير المباشر التي يقام فيها الدليل على واقعة معينة عن طريق الاستنتاج من وقائع أخرى معلومة، وأن دلالتها لا تنصب على الواقعة المراد إثباتها، وإنما على واقعة أخرى تسبقها أو تنتجها بمحض اللزوم العقلي.
ثالثا- إثبات الدفع بالأمية من خلال بحث المحكمة
من المعلوم أن الدفع بالأمية لا يعد إلا طرحا لواقعة على أنظار المحكمة بقصد البت فيه إما إيجابا أو سلبا، وذلك قبيل الفصل في موضوع الدعوى، ومن ثم فإن أول ما يلاحظ على محاكم الموضوع هو كونها كثيرا ما تلجأ إلى إجراء بحث في النازلة التي يثار بشأنها الدفع بالأمية وذلك إما:
- بناء على طلب من أحد الخصوم.
- أو بناء على قناعتها الشخصية.
- أومن تلقاء نفسها.
وذلك قصد الاستماع إلى الأطراف شخصيا بغية التأكد من مدى جدية هذا الدفع من عدمه، فقيام المحكمة بهذا البحث قد يسفر لها من جهة أولى عن معطيات جديدة لم يسبق لمحامي الخصوم أن أدلوا بها، ومن جهة ثانية، فان الأسئلة التي تطرحها المحكمة على الأطراف تجعلها في غالب الأحايين تكشف لها عن حقيقة النوايا الكامنة وراء إثارة هذا الدفع.
بالتالي تكوين قناعتها في مدى أحقية المتمسك بهذا الدفع من الاستفادة من الحماية المقررة في الفصل 427 من قانون الالتزامات والعقود وما يترتب على ذلك من أثار أم أن دفعه لم يكن سوى مجرد وسيلة للتملص من التزاماته تحت ذريعة الأمية.
وللإشارة فإن قيام المحكمة بهذا البحث لا يعتبر منها خروجا عن مبدأ الحياد أو تدعيما لجانب على أخر، بل هو إجراء قد يستفيد منه المدعى عليه أو المدعي وذلك حسب النتيجة التي يسفر عنها البحث.
2- أثار الدفع بالأمية على الالتزام
لا شك أن الأمية تعد أحد أهم الشوائب التي يمكن أن تنصب على التصرفات المثبتة بمقتضى أوراق عرفية والتي غالبا ما تأتي على شكل دفع يرمي من خلاله صاحبه أو المتمسك به إلى استبعاد الوثيقة موضوع الدفع المثار أو المحرر المتمسك به ضده.
![]() |
| الدفع بالأمية |
وإذا كان هذا الدفع يوجب على المحكمة إلزاما التصدي له وذلك بالفصل فيه قبل البت في النزاع موضوع الورقة العرفية، فانه على المحكمة إعمالا لصلاحياتها الواسعة وذلك قصد الإجابة على هذا الدفع المثار أن تعمل على التأكد من مدى جدية هذا الدفع من عدمه، من خلال تفحصها لوسائل الإثبات المدلى بها من قبل المتمسك بهدا الدفع المضمنة بالملف.
ويكون ذلك بمقارنتها بوسائل الإثبات الأخرى المدلى بها من الطرف المتمسك به ضده بهذا الدفع مع إعمال نوع من التقييم بين جل هذه الحجج وذلك حتى تستقر قناعتها على احدها.
عليه فان التساؤل الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا الصدد هو: ما هي أهم الآثار القانونية التي يمكن أن تترتب في حالة ما إذا اقتنعت المحكمة فعلا بجدية الدفع المثار من قبل مدعي الأمية والذي غالبا ما يسهل إثباته لتعلقه بواقعة مادية يمكن إثباتها بشتى وسائل الإثبات؟
إن الإجابة على هذا التساؤل يستدعي منا تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين إثنين،سنتناول في المطلب الأول أثر الدفع بالأمية على مصير الورقة العرفية كوسيلة إثبات وكذا قيمتها القانونية، أما المطلب الثاني فسنخصصه لأثر الدفع بالأمية على التزامات الأشخاص الأميين والجزاء المترتب على ذلك.
إستبعاد الورقة العرفية
لعل أول ما يلاحظ على الفصل 427 من قانون الالتزامات والعقود الذي يعد أساس و محور بحثنا هو أن المشرع المغربي أدرجه ضمن الباب المتعلق بالإثبات بالورقة العرفية، الشيء الذي يؤكد لنا بجلاء أن محررات الأشخاص الأميين تعد هي الأخرى وسيلة إثبات تدخل ضمن الأوراق العرفية.
- هل إستبعاد المحكمة لهذه الورقة يجردها من قيمتها القانونية المتوخاة منها؟
- وهل الأمر يستدعي من جهة أخرى إصدار المحكمة المختصة قصد إعمال اثر الدفع بالأمية؟
أولا- انعدام القيمة القانونية للورقة العرفية
من خلال قراءة متأنية لمقتضيات الفصل 427 المشار إليه أعلاه، يتبين لنا أن المشرع المغربي قد استعمل عبارة " لا تكون لها قيمة " التي تحتمل أن تعود على المحررات أوعلى الالتزامات، ولعل التمييز بين ما إذا كانت هذه العبارة تعود على الالتزامات أو المحررات له قصد وهدف معينين وكذا دور كبير في تحديد الآثار التي يمكن أن تترتب عن ذلك في كلا الحالتين.
فإذا ما قلنا كفرضية أولى أن الذي لا تكون له قيمة هي الالتزامات، فإننا لا شك سنفر غ هذا الفصل من محتواه ومن غايته المحددة له من قبل المشرع الذي يهدف من تنظيم هذا الفصل ضمن فصول تعنى بوسائل الإثبات والتي من بينها الأوراق العرفية، سيفتح الباب على مصاعيه أمام كل طرف يريد التحلل و التملص من التزاماته.
بالتالي لا يلزمه إلا التمسك بمقتضيات الفصل، الشيء الذي يؤدي لا محالة إلى تهديد وزعزعة استقرار المعاملات وكدا انعكاسه سلبا على العلاقات التعاقدية والمراكز القانونية للأطراف.
في حين لو فرضنا أن عبارة "لا تكون لها قيمة" تعود على مصطلح المحررات و ليس على مصطلح الالتزامات، فإن في ذلك تأكيد وغاية محددة للمشرع المغربي في حماية فئة معينة داخل المجتمع لم تنل حضها حتى من أبجديات التعلم وهي فئة الأميين المشار إليها في نفس الفصل المذكور أعلاه.
ولئن كانت فلسفة المشرع المغربي كما سبق الذكر من خلال الفصل 427 المذكور تهدف إلى حماية الأشخاص الأميين، فانه يتوجب على المحكمة التي تنظر في النزاع المثار بشأنه الدفع بالأمية أن تصرح بإنعدام القيمة القانونية للمحرر أو الورقة العرفية التي تضمنت التزامات هؤلاء الأشخاص.
وذلك كلما تبين لها جدية الدفع المثار بهذا الخصوص ،وهذا يعني بعبارة أخرى عدم مواجهة مدعي الأمية بما تضمنه المحرر العرفي من التزامات صادرة عنه.
وبالتالي التصريح بانعدام أية قيمة قانونية للورقة العرفية المطعون فيها بالأمية وذلك من خلال استبعادها كوسيلة لإثبات الالتزامات المضمنة بها.كما أن المحكمة قد تتوصل في أحيان أخرى وذلك عن طريق بعض الأدلة والأسانيد إلي أن التمسك بالأمية غير مرتكزعلى أي أساس، وبالتالي فإنها تكون ملزمة بإعمال جل الآثار التي قد تترتب عن هذه النتيجة التي خلصت إليها.
ولئن كان الأمر كما سبق الذكر، منحصرا بصفة خاصة في وسيلة إثبات الالتزام لا في مقوماته أو عناصره، فإن إثبات هذا الأخير بوسيلة غير الورقة العرفية يظل مفتوحا، وبالتالي فإن المحكمة عندما تكون قناعتها بخصوص جدية الدفع المثار بشأن الأمية، فإنها تحكم برفض الطلب لعلة أن الالتزام المراد تنفيذه يعوزه الإثبات.
وإذا كنا أشرنا سابقا، أن الدفع بالأمية هو دفع موضوعي يثار أمام المحكمة وهي بصدد الفصل في نزاع معين، فإن حكم المحكمة برفض الطلب لعلة أن الالتزام يعوزه الإثبات يستوجب صدور حكم أو قرار قضائي.
ثانيا- ضرورة صدور حكم أو قرار قضائي لإعمال أثر الدفع بالأمية
إذا كان الدفع بالأمية يندرج ضمن النزاعات الجوهرية المتولدة عن الوثيقة العرفية الموقعة من قبل الطرف الأمي وأنه لا يمكن أن يثيره إلا صاحب المصلحة، وذلك بمناسبة مطالبته من قبل الدائن بتنفيد ما التزم به بمقتضى الوثيقة العرفية المحتج بها ضده من جهة أخرى.
وإذا كان هذا الدفع يشكل أحيانا أداة خطيرة وذلك عندما لا يقصد منه فقط القول بأمية أو عدم أمية المعني بالأمر وإنما يهدف ويروم إلى تحلل وتملص صاحبه من التزاماته المضمنة بالوثيقة وما يترتب عن ذلك من حرمان الطرف الأخر المتمسك به ضده بهذا الدفع لحقه الناشئ عن ذات الوثيقة.
كما أن المحكمة من جهة أخرى لا يمكنها كذلك أن تجيب على هذا الدفع سلبا أو إيجابا ، إلا إذا كانت بمناسبة النظر في الدعوى الأصلية الناشئة عن الورقة العرفية والتي تكون موضوعا للطعن بالأمية، فإن طبيعة وخطورة الآثار المترتبة عن هذا الدفع تجعلان منه مسالة عارضة،لا يمكن البت فيها إلا بمقتضى حكم صادر عن المحكمة الإبتدائية أو بمقتضى قرار لمحكمة الدرجة الثانية.
هكذا فان المحكمة المختصة وأمام تمكن الطرف المتمسك بالأمية من إثباتها لا يسعها إلا أن تصرح كما سبق الذكر باستبعاد الورقة العرفية، لكون حاملها عجز عن الإثبات والإدلاء بوسيلة أخرى بدلها.
وهوالشيء الذي يستتبعه بالضرورة أن تصدر حكما أو قرارا يقضي برفض الطلب لانعدام الإثبات مع بقاء الحق للدائن المتضرر من هذا الدفع إلى اللجوء مرة أخرى إلى القضاء ومن جديد لاستخلاص حقه ،و ذلك كلما توفر دليل أخر أقوى من الوثيقة المستبعدة سابقا بسبب الأمية.
وهكذا يبقى التساؤل مطروح هنا حول ما إذا استطاع الدائن المتضرر الإدلاء بدليل أخر أقوى من حيث الدرجة من الوثيقة المستبعدة، فهل ستتم مواجهته بقاعدة سبقية البت بعلة أن هناك حكم سابق قضى برفض الطلب؟
من المعلوم وكما سبق الذكر أن الورقة العرفية أو المحرر المتضمن لالتزامات أشخاص أميين، يعد في مفهوم الفصل 427 من ق ل ع وسيلة إثبات تندرج ضمن الأوراق العرفية.
وبالتالي فان استبعاد هذه الوثيقة من قبل المحكمة كلما ثبت لها جدية الدفع المثار، لا يجعلها تقر بكون الحق موضوع الطلب لم ينشأ أصلا ،وإنما يرجع ذلك فقط إلى كون صاحبه لم يستطع أثناء نظر المحكمة في الدعوى الإدلاء بالدليل المقبول في الإثبات.
وهو الشيء الذي جعل بعض الفقه يعبر عنه بالقول أنه: شتان بين رد طلب المدعي بعلة جوهرية في الإلتزام المنشئ للحق، وبين رد الطلب بعلة في وسيلة إثبات هدا الالتزام.
أثر الدفع بالأمية والتزامات الأشخاص الأميين
لما كان أحيانا أن الورقة العرفية قد يتم استبعادها وعدم اعتبارها كوسيلة إثبات كتابية، وبالتالي عدم إعمال أثارها بخصوص كل ما نصت عليه من التزامات، وذلك في حالة ما إذا استطاع فعلا المستظهر بها ضده من إثبات أميته.
![]() |
| الدفع بالامية وأثره على الالتزام |
لذلك فإن أول سؤال قد يتبادر إلى الذهن هو ،ما مصير الالتزامات المضمنة بتلك الوثيقة المستبعدة نتيجة لأمية أحد طرفيها ،وهل تلك الالتزامات باطلة وبالتالي تعد هي والعدم سواء أم تبقى قابلة للإبطال، أم أنها تظل على العكس من ذلك صحيحة وقابلة للسريان في مواجهة صاحبها؟
إن الإجابة على هذا السؤال يجعلنا ملزمين بتقسيم هذا المطلب إلى فقرتين اثنتين.أولا-الدفع بالأمية وبطلان الالتزام
إن أول ما يجب الانتباه إليه في هذه النقطة هو، هل تعد الأمية أحد الأسباب التي تؤدي إلى بطلان الالتزام أم لا، وإذا كان المشرع المغربي لم يعرف المقصود بالبطلان في إطار قانون الالتزامات والعقود ،فإن بعض الفقه؟ قد عرفه بكونه "ذلك الوصف الذي يلحق التصرف القانوني لعيب فيه ، فيحرمه من أثاره".
هكذا فإنه وبرجوعنا إلى نصوص قانون الالتزامات والعقود المغربي، نجد أن أسباب بطلان الالتزام ترتبط أساسا بتخلف أحد أركانه التي يقوم عليها أو إذا قرره القانون في حالات خاصة.
وقد جاء في مقتضيات الفصل 306 من نفس القانون أن الالتزام لا يكون باطلا بقوة القانون إلا إذا كان ينقصه أحد الأركان اللازمة لقيامه، وكذا إذا قرره القانون في حالات خاصة.
من خلال استقراء الفصول السابقة والتي تعنى ببطلان الالتزام لا نجد الأمية كسبب من الأسباب التي تؤدي إلى بطلانه، وبالتالي فان ارتباط هذه الأخيرة بالطرف الملتزم بمقتضى الوثيقة العرفية لا يجعلها تعتبر سببا لانعدام أهليته أو نقصانها ولا حتى شائبة من الشوائب التي توجب بطلان الالتزام الصادر عن الطرف الأمي، على أساس أن هذا الأخير ليس صغيرا أو منعدم التمييز أو مجنونا أو معتوها أو في حكم ذلك.
ولئن كان كذلك أن البطلان كجزاء، قد يتم تقريره بمقتضى نص قانوني خاص ضمن حالات معينة ، كما هو الشأن مثلا لبطلان كل عقد قرض تضمن اشتراط فائدة معينة بين المسلمين 67 ، وكذا بطلان كل تصرف تعلق بتنازل عن تركة إنسان لازال على قيد الحياة أو كما في حالة بطلان كل اتفاق يلزم فيه الشخص بتقديم خدماته طوال حياته.
كما أن الأمية لا ترتبط مقتضياتها من جهة أخرى بالنظام العام أو الأخلاق الحميدة حنى يمكن أن نرتب عليها البطلان كجزاء أيضا.
خلاصة لكل ما سبق، فإن الأمية كموضوع للدفع السابق ،لا تعد أحد أسباب بطلان الالتزام ،مادامت أنها لا ترتبط بأركان الالتزام التي لا يقوم بدونها ولا حتى كذلك بمقتضيات النظام العام.
ثانيا- الدفع بالأمية وإبطال الالتزام
إذا كان كما رأينا سابقا أن الامية لا تعد سببا من أسباب بطلان الالتزام المقررة في الفصل 306 من قانون الالتزامات و العقود وذلك لعدم ارتباطها بأركان الالتزام التي لا يمكن أن تقوم بدونها ولا حتى كذلك بمقتضيات النظام العام،ومن تم فإن ما سبق تناوله بخصوص البطلان لا يجعلنا نستغني عن الحديث على الإبطال على أساس أن هناك فرقا قانونيا بينهما.
ولعل السؤال الذي يمكن طرحه في هذا الصدد هو، لئن كانت الأمية لا تنهض كأحد أسباب بطلان الالتزام، فهل تعتبر من وجهة أخرى سببا للمطالبة بإبطاله؟ولما كان الإبطال ينبني هو الأخر على أسباب معينة وذلك انطلاقا من ظاهر نصوص قانون الالتزامات والعقود:
- كنقصان الأهلية.
- الغلط والتدليس والإكراه والغبن.
- والاستغلال وكذا بعض الحالات الأخرى المنصوص عليها بمقتضى نصوص خاصة.
فإنه و برجوعنا إلى مقتضيات الفصل 311 آمن ق ل ع نجده لم يدرج الأمية ضمن الحالات المحددة لإقامة دعوى الإبطال، هذا بالإضافة إلى انه لا يوجد نص خاص ضمن القواعد العامة ولا في مدونة الأسرة يشير إلى أن الأمية تعد أحد الأسباب التي تؤثر على أهلية المتعاقد، وبالتالي تجعلها ناقصة أو مفقودة.
لما كانت الأمية لا تعتبر سببا من الأسباب التي يمكن أن تؤثر على أهلية الطرف المتعاقد وذلك إما بفقدها أو انتقاصها ، فإن التساؤل المطروح هنا هو: ألا يمكن أن نعتبرالأمية من زاوية أخرى عيبا من العيوب التي يمكن أن تمس رضى الطرف المتعاقد ، وبالتالي اعتبارها سببا ينهض لإقامة دعوى الإبطال؟
إذا كان المقصود بعيوب الرضى تلك الأمور التي تلحق إرادة احد المتعاقدين فتفسد المتعاقد يبقى موجودا وكل ما في الآمر أن إرادته رضاه دون أن تجهز عليه ، ذلك أن رضى لم تكن سليمة لكونها لم تصدر عن بينة واختيار إلا أن هذا كله لا يحول دون وجود التصرف.
وبالتالي يكون من حق كل من عيبت إرادته أن يطالب بابطاله بناء على تلك العيوب التي تشوب رضاه ، فتفسده كالغلط أو التدليس أو الإكراه أو حالة المرض والحالات الأخرى المشابهة لها.
وإذا كنا قد فصلنا سابقا في الفروق الجوهرية بين مؤسسة الأمية والمؤسسات الأخرى المشابهة لها والتي من ضمنها عيوب الرضى وخلصنا في النهاية إلى أن هناك اختلاف كبير بين هذه المفاهيم رغم بعض التشابه والاختلاط الذي قد يثار بينها.
ولئن كانت الأمية لا تعد أحد الأسباب التي يمكن أن تنهض سببا لدعوى الإبطال، وذلك لكون أن الأمي تكون إرادته سليمة وقائمة أثناء إبرام تصرفاته القانونية ،بالإضافة إلى أن المشرع المغربي وهو بصدد تنظيمه لمبدأ الرضا في المعاملات عمل على تحديد العيوب التيقد تشوب المتعاقد بصفة عامة.
سواء كان هذا الأخير أميا أو غير ذلك ولا فرق بين ما إذا كانت الالتزامات قد تم إفراغها ضمن أوراق عرفية أو رسمية. ولما كانت الأمية من جهة لا تعد أحد الأسباب التي قد تقوم عليها دعوى الإبطال، فإنها أحيانا سببا كافيا يجعل الأمي مؤهلا لأن يسقط في أي وقت ضحية.
ومن جهة أخرى قد تصبح غبن أو تدليس أو غلط أثناء تعاقده مع الغير، وبالتالي فالأمية باعتبارها واقعة مادية " كقرينة في يد صاحب المصلحة الذي يمكنه حينها أن يستند عليها قصد إثبات قيام أحد هذه العيوب التي شابت إرادته والتي سبق أن ادعاها.
وبالتالي فإن المحكمة وبمجرد أن تقتنع بأميته، فإنها تصنفه ضمن قائمة الناس الذين يمكن أن تنطلي عليهم الحيل وبالتالي يسهل إيقاعهم في الغلط أو التدليس أو غيرهما من عيوب الرضى.


