📁 آخر الأخبار

العقوبة كوسيلة لردع الجاني

العقوبة كوسيلة لردع الجاني

إن مسالة البحث عن الهدف والغاية من توقيع العقاب ضد الجانحين والمجرمين ظلت محل اهتمام الفكر البشري طوال عقود من الزمن، فالعقوبة كانت في العصور القديمة والوسطى والتشريعات الوضعية "شر يقابله شر".

العقوبة كوسيلة لردع الجاني
العقوبة كوسيلة لردع الجاني

فكانت آنذاك العقوبة هي الصورة الوحيدة لرد الفعل إزاء الجريمة، هذا الرد الذي اتخذ طابعا فرديا في المرحلة الأولى لتطور القانون الجنائي، ثم رد الفعل الاجتماعي بعد أن تولت السلطات العامة توقيع العقوبة على مرتكب الجريمة.

وبصدد دراستنا العقوبة باعتبارها أداة أو فكرة لردع الجاني فإننا بداية سنقوم بتحديد المبادئ التي تقوم عليها العقوبة ثم بعدها للأهداف المراد تحقيقها من خلال توقيع العقوبة على الجاني.

المبادئ التي تقوم عليها العقوبة

إن العقوبة لابد لها أن تحترم مجموعة من المبادئ لكي تكتسب شرعيتها ومشروعيتها، وتلق قبولا من طرف المخاطبين بها.

مبدأ شرعية العقوبة

يراد بمبدأ شرعية العقوبة أن تكون العقوبة محددة في نص القانون من حيث نوعها ومقدارها، وهذه الخاصية لا تجد سندها في القانون الجنائي فحسب من خلال فصله الثالث الذي اعتبرعلى انه لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون كما أنه لا يمكن معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون.

كما أنه تم تكريس هذا المبدأ حتى في مقتضيات دستور 2011 ضمن فصله 23 منه، وبالتالي فإن مبدأ الشرعية، هو المبدأ الأساسي للقانون الجنائي، يتطلب أن تحدد العقوبات، بالإضافة الى التهم، في نص قانوني أصيل. كما يجب أن تحدد العقوبة بواسطة السلطة التشريعية وفقا لهذا المبدأ.

وتطبيقا لهذا المبدأ فإنه لا يجوز للقاضي النطق ضد المتهم بعقوبة غير واردة في النص القانوني، ولا أن ينطق بعقوبة تفوق أو تقل عما هو محدد في هذا النص،إلا أن هذه القاعدة لا تقف أمام بعض الضرورات العملية التي فرضت على المشرع ذاته ترك الحرية للقاضي في تفريده للعقاب، تبعا لخطورة الجريمة وشخصية المجرم.

فيمكنه تبعا لذلك النزول عن الحد الأدنى للعقوبة أو جعلها موقوفة التنفيذ وذلك دون أن يتنافى ذلك مع مبدأ شرعية العقوبة.

وحقيقة الأمر، فإن العقوبة ليست دائما محددة بالقانون فحسب، بل أيضا بواسطة السلطة التنفيذية في حالة المخالفات، ومع ذلك فإن السلطة التنظيمية، مهمتها إصدار عقوبات للمخالفات، تقوم بهذه العملية وفقا لنفس الأسلوب الذي تتبعه السلطة التشريعية أي وفقا لشدة الاضطراب ويجب أن تحترم أيضا مبدأ الضرورة.

والعقوبة الجنائية تشكل دائما انتهاكا لحقوق الفرد، وبما أن هذا الانتهاك يكون خطيرا لدرجة أنه لا يتم تنفيذه بواسطة القانون، فإن التدخل من طرف السلطة التنظيمية يطرح تساؤلات عدة حول شرعية العقوبة ووظيفة مبدأ شرعية التجريم، لذلك يجب ما يلي:

  • يجب أن يتم تحديد العقوبات بنفس الطريقة من قبل السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية.
  • يجب على السلطتين التنفيذية والتشريعية احترام المبادئ القانونية على الرغم من أن النص يشير الى السلطة التشريعية فقط.

وبالتالي فوفقا لمبدأ الشرعية فإنه يجب على السلطة التشريعية تحديد العقوبات المناسبة لكل جريمة، في حالة عدم تعيين عقوبة لجريمة معينة من قبل السلطة التشريعية، فإن القاضي لن يكون قادرا على معاقبتها.

في الواقع يلزم مبدأ الشرعية السلطة التشريعية بوضع إطار لا يمكن للقاضي تجاوزه والذي يمارس فيه سلطاته، كما أنه هذا المبدأ لا يعني بتاتا إبعاد السلطة التنفيذية عن كل ما يتعلق بالعقوبة.

مبدا شخصية العقوبة

يقصد بمبدأ شخصية العقوبة أنه يتم إنزال العقوبة فقط على الشخص المرتكب للجريمة أو المساهم فيها أو المشارك فيها، وهو ما نص عليه دستور 2011 ضمن فصله 23 والذي يفهم منه أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بمقتضى قانونٍ سابق والعقوبة شخصية.

ونفس الأمر ورد بمقتضى الفصل 132 من القانون الجنائي، إذ نص على شخصية المسؤولية الجنائية، فهي تنال المذنب بالإضافة الى شخصه، في ماله أو اعتباره أو حقوقه المدنية أو الوطنية.

وذلك باستثناء بعض الغرامات التي تقرر نصوص فليلة التضامن بشأنها بين مقترف الجريمة وبين بعض الأفراد الآخرين.

  • العقوبة تنطوي على إهدار لحق من حقوق مرتكب الجريمة أو لمال من أمواله أو لمصلحة من مصالحه القانونية.
  • وقد تنطوي هذه العقوبة على مجرد إنقاص لحق أو لمال أو لمصلحة قانونية للجاني.

وسواء تمثلت العقوبة في إهدار لحق أو لمال أو لمصلحة الجاني، أو في مجرد إنقاص لأي من هذه، فيشترط في محلها أن يكون خاصا بالجاني وحده دون غيره، وهو ما يعبر عنه بمبدأ "شخصية العقوبة " هذا المبدأ الذي تعتنقه جل التشريعات الجنائية المعاصرة.

مبدأ قضائية العقوبة

إن الجريمة تعد واقعة جنائية رئيسية منشئة لحق الدولة في العقاب، وهذا الحق إذا نشأ فإنه ليس للدولة أن تلجأ الى تنفيذه "مباشرة" في مرتكب الجريمة.

فليس للدولة هذا الحق حتى ولو في حالة اعتراف المتهم بارتكابه للجريمة اعترافا يمكن الجزم معه بإدانته لو عرض أمره على القضاء. بل حتى ولو كانت العقوبة المقررة للجريمة ذات حد واحد ورضي الجاني بتنفيذه المباشر للعقوبة.

وعليها أن تسعى لاستصدار حكم قضائي بات من المرجع المختص الذي يكشف عن وجود هذا الحق ويحدد العقوبة التي يخضع لها مرتكب الجريمة.

وبالتالي فقد أصبح من المبادئ السائدة في التشريعات الجنائية المعاصرة أنه "لا عقوبة بدون حكم"، وغثر ذلك قيل بأن حق الدولة في العقاب هو حق قضائي.

أهداف العقوبات

تتجسد أهداف العقوبة في كل من الردع والعدالة الاجتماعية والتأهيل.

تحقيق الردع

يقصد بالردع من الناحية الاصطلاحية، ذلك الأثر الذي تتركه العقوبة بما يتضمنه من إيلام يصيب الجاني، يصرف المجرمين المحتملين من تقليده، وسنميز فيه بين كل من:

  1.  الردع العام
  2. الردع الخاص
سيتم الحديث بداية عن للردع العام ثم بعدها نتطرق للردع الخاص.

1- الردع العام

تقوم الفكرة الأساسية للرد ع العام على مواجهة الدوافع الجرمية لدى الأفراد بعدة وسائل، وأهم تلك الوسائل العقوبة بهدف الحد من ارتكابها، وبطبيعة الحال فهذه الدوافع موجودة لدى غالبية الناس، وتتمثل في صورة استعدادات كامنة في النفس البشرية.

فإذا ما صادفت أجواء مناسبة، خرجت تلك البواعث في صورة إجرام حقيقي، فتكبح العقوبة جماحها خشية ومخافة من الألم الذي تتضمنه.

وأهمية الردع العام تبرز كمردود للعقوبة بإنه يشكا إنذارا للناس كافة، ببيان الآثار السيئة المترتبة عن ارتكاب الجريمة فينصرفون عنها، وبالتالي فوظيفة العقوبة من هذه الناحية وموضوعها نفسية أفراد المجتمع.

وبصفة خاصة أولائك الذين تتوفر لديهم ميولات ونزعات إجرامية، باعتبار أن الخشية من الألم الذي تحدثه العقوبة يقف حائلا دون ارتكاب جرائم أخرى بالمستقبل.

2- الردع الخاص

هذا النوع من الردع يعرف بأنه تكوين المجرم بعلاج الخطورة الكامنة في شخصه واستئصالها بالوسائل والأساليب المناسبة خلال مدة تأهيله، ومنعه من العودة الى الإجرام مرة أخرى، وإدماجه ليصبح عضوا صالحا في المجتمع.

والردع الخاص يهدف الى استئصال العوامل الدافعة لارتكاب الجريمة، فهو موجه الى الشخص المجرم من خلال تدابير وبرامج وبدائل عقابية.

وهنا يكمن الفرق بينه وبين الردع العام الذي يستهدف المجتمع كافة، بمواجهة الدوافع الاجرامية لدى عامة الناس، كما أن دور الردع العام قد يكون استباقيا قبل وقوع الجريمة بالتحذير من الاقدام على الفعل وما ينتج عنه من آثار، أما الردع الخاص فهو يستهدف الشخص عند ارتكابه للفعل الإجرامي.

تحقيق العدالة الاجتماعية

إن مسألة تحقيق العدالة الاجتماعية هي من بين أهم الأغراض التي يستهدفها تحقيق العقاب، وهذه الفكرة تتأسس على ضرورة وجود تناسب بين الجريمة والإيلام الذي تحدثه العقوبة.

ومبدأ عدالة العقوبة يقوم على ما يلي:
  1. مبدا عدالة العقوبة يقوم على مقدار العقوبة وزمنها، بحيث أنه لابد من ضرورة اللجوء الى تقرير العقوبة، وهذه الضرورة لابد أن تقدر بقدرها دون إفراط أو تفريط.
  2. أن وظيفة العدالة وظيفة أخلاقية معنوية، وهي إرضاء الشعور الاجتماعي العام الذي تأدى من وقوع الجريمة.
كما أن تحقيق العدالة يعيد للقانون هيبته وللسلطات التي أنيط بها تنفيذه احترامها، بعد أن أخلت بها الجريمة.
تأهيل الجاني.

التأهيل يهدف الى تحويل الجاني الى شخص نزيه، وهذا الغرض قد فرض نفسه بعد الحرب العالمية الثانية حينما اعتبرته حركة الدفاع الاجتماعي محور منظومتها الفلسفية، حيث تقوم هذه الحركة على إصلاح المحكوم عليه بواسطة معاملة تربوية جوهرها احترام كرامة السجين وحقوقه.

ومن هنا يمكن القول أنطلاقا من مضمون التأهيل أن:

  • الجزاء الجنائي أصبح إنسانيا، مما جعل فكرة التأهيل والإصلاح تحتل مكانة بارزة.
  •  كما أن المعاملة العقابية أصبحت جوهر علم العقاب، إلا أن هذا الانتشار سرعان ما تراجع خلال السبعينات انطلاقا من النتائج الواقعية.

وأخيرا يمكن القول إنه إذا كان الرفض لواقع للردع العام والردع الخاص في صورته السلبية نظرا لاقترانهما بالألم، فإنه من الصعب فهم رفض الواقع لإنسانية العقاب.

تعليقات